[قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: " القدر سر الله فلا نكشفه"] هذا القول لـعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يتناقل في بعض كتب الأدب وكتب التراجم، وأنا إِلَى الآن لم أعثر عليه مسنداً متصلاً بسند صحيح، ولكن إن كَانَ المقصود بالعبارة هو أن أصل القدر سر فلا نسأل عنه ولا نبحث عنه، فهذا يتفق مع ما ذكرنا ولا إشكال في ذلك.
وأما إن كَانَ المراد من ذكر ذلك أن أمير المؤمنين عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرف ويعلم سر القدر، ولكنه -كما ذكر بعض الروافض- أنه سُئل عن القدر فقَالَ: ذلك سر الله، فلا نكشفه أي: أنا أعرفه ولأنه سر الله فأنا لا أكشفه، فهذا يتناقض مع ما قرره الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- حيث يقول: [لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل].
فكيف يكون عَلِيّ-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرفه ولكنه لم يبينه ولم يكشفه؛ لأن عقول النَّاس لا تحتمله، كما أشار إِلَى ذلك أبو حامد الغزالي وغيره ويقولون: إن علياً -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عنده ألف باب من العلم، وفي كل باب إِلَى ألف مدينة.. إِلَى آخر ذلك، وأنه لا يمنعه من بث ذلك العلم إلا أن النَّاس لا تحتمله عقولهم -سُبْحانَ اللَّه- وأي علم لا تحتمله عقول خير البشر، وأفضل النَّاس علماً، وأكملهم عقلاً هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفلا كَانَ علم واحداً منهم هذا العلم، ولهذا عندما قال قائلهم الأبيات التي يتمثل بها الغزالي كثيراً.
يارُب جوهر علم لو أبحت به            لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي            يرون أقبح ما يأتونه حسنـا
يقول: إن هناك جواهر من العلم لا يبوح بها، ولو أنه باح بها لقيل: إنه ممن يعبد الوثن. هذا الأبيات تنسب إِلَى بعض أهل البيت، وتمثل بها الغزالي وغيره، فلو أنه أباح به لقيل له: إنك تعبد الأوثان ولاستحلوا دمه، ولهذا يكتمه، ولهذا ألف كتابه المضنون به عَلَى غير أهله ويجعلون كلمة عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- هذه من هذا الباب
.
والباطنية الفرقة الخبيثة المرتدة التي هي أكفر من اليهود والنَّصَارَى يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لديه علم باطن، ويروون عن عُمَر-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أنه قَالَ: " كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر كَانَا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما" أي: لا يفهم شيئاً مما يقولان أي: في العلم الباطن، فإذا تكلما في العلم الظاهر فهم الكلام ونقله.
يعني أن هذا العلم الباطن يخفى حتى عَلَى عمر ثُمَّ يقولون: إنه أورثه الوصي أي: عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فعنده العلم الباطن وعنده الأسرار ومنها أنه مطلع عَلَى سر القدر. وكل هذا الكلام من الكفر الصريح؛ لأنه يناقض معلوماً من الدين بالضرورة
، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغ الدين كاملاً، فالنبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين يبث وينشر العلم الظاهر (علم الرسوم).
وأما الجواهر المكنونة والعلوم المضمونة التي هي أنفس وأغلى وأثمن يختص بها ابن عمه وزوج بنته -عياذاً بالله- حاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي كَانَ يسأله الصحابة وكل النَّاس فيبين لهم. وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمرنا أن ندعو إِلَى الله وأن نجاهد الكفار لنبلغ دعوة الله إِلَى آفاق الدنيا، يكتم هذا العلم ولا يطلع عليه حتى عُمَر؟ وإنما يختص به علياً أو غيره. وعَلِيّ أيضاً يكتمه ولا يعطيه إلا أبناءه ويبقى سراً يتناقلونه. ما هذه الأخلاق؟! هذه ليست بأخلاق الأَنْبِيَاء ولا بأخلاق الفضلاء.
والله عَزَّ وَجَلَّ قد أمر نبيه أن يبلغ دينه فَقَالَ له :((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67] ومع ذلك يقال: إنه لم يبلغ إلا العلم الظاهر، أما العلم الباطن فقد كتمه. ثُمَّ يأتي من يؤلف في العلم المضنون به عَلَى غير أهله، ما هو هذا العلم المضنون به؟ أي علم هو؟ أهو أفضل من القرآن، فالقرآن لم يُضَن به عَلَى أحد، بل يحفظه الأطفال في المساجد، وفي كل مكان، وإن كَانَ دونه، فكيف يظن بشيء أنه أعلى من القرآن؟ ولهذا يقول بعضهم: مما يضن به تفسير القرآن، وأن لكل حرف من حروف القُرْآن سر، ولهذا السر سر، ولهذا الباطن باطن، إِلَى سبعمائة باطن.
ونعود إِلَى القضية الأولى وهو: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما علمنا من هذا القُرْآن رسمه أي حروفه فقط. لكن الحقائق والجواهر والمعاني الباطنة العميقة اختص بها علياً أو غيره.
إذاً هذا النبي لم يبلغ، وحاشاه من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمثل هذه العبارة ينبغي أن ينتبه إِلَى ما فيها من الاحتمال، حيث قد يفهمها بعض النَّاس بل قد فهموها عَلَى غير حقيقتها.
فأما إن كَانَ الجواب كما هو في بعض النسخ أنه قَالَ: سر الله فلا تكشفه. أي: لا تبحث عنه. فلا أنا أعلم ولا أنت تعلم ولا أحد يعلم، فهذا واضح، وسر الله عَزَّ وَجَلَّ لا يعلمه أحد، فهذا هو المعنى أو الاحتمال الذي يظن بـعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- إن صحت عنه الرواية.